ويشرح (اكلكس) فيقول “تعلمت بالتجربة الثابتة أنني بالتفكير والإرادة أستطيع أن أتحكم بأفعالي إذا شئت ذلك وليس في وسعي أن أفسر تفسيرا علميا كيف يستطيع التفكير أن يؤدي إلى الفعل ولكن هذا العجز يأتي مصداقا لكون علوم الفيزياء والفسيولوجيا في وضعها الراهن بدائية للغاية، وأعجز من أن تتصدى لهذه المهمة العسيرة، وحين يؤدي التفكير إلى الفعل يجدني مضطرا كعالم متخصص في الأعصاب إلى افتراض أن تفكيري يتغير بطريقة تستعصي على فهمي تماما أنماط النشاط العصبي التي تؤثر في دماغي وهكذا يصبح التفكير يتحكم بشحنات النبضات الناشئة في الخلايا هرمية الشكل للقشرة الحركية في دماغي، كما يتحكم آخر الأمر بتقلصات عضلاتي والأنماط السلوكية الناشئة معها”.
هنا يتكلم هذا العالم في الأعصاب عن أمر في غاية الأهمية في علم النفس وهو يدعم توجهنا وزعمنا في النظرية القرآنية أن التفكير هو ثمرة العملية العقلية، وعلى أهمية وجود العقل لا بل على جوهريته المتمثلة بالإرادة وهذا ما حاول علماء النفس الابتعاد عنه وتسميته بتسميات مختلفة لعدم قناعتهم بشيء يسمى العقل أن ضابط الدوافع والسلوك وهو ليس غرائزيا وليس استجابة تعلمية وهو ليس حاجة وهو ليس فهما خاطئا وهو ليس نقصا في الذات وليس شيئا كان ناقصا في الماضي، ولكنه العقل والإرادة التي يتحمل الإنسان المسؤولية الكاملة عن قراره وإرادته وهو مخير غير مسير بأي شائبة ولكن الضعفاء يحاولون البحث عن العذر دائما وعن شيء يغطون به عورتهم.
يقول عالم الفيزياء الفلكية (وليم وفمان) ما نصه “من المستحيل عملياً أن نتصور متصل المكان والزمان الملتوي ذو الأبعاد الأربعة فالمكان الرباعي الأبعاد لا يستطيع أن يحس به أو يتخيله حتى علماء الفيزياء والرياضيات ولكن يمكن فهمه، والعقل في مجال العلوم يمكن أن يسمو على قيود الخيال وهو حاسة داخلية، فالعقل البشري إذن ليس متميزا في الخيال فحسب، بل هو قدرة إدراكية تفوقه بكثير، والعقل لا الحواس هو الذي يصنع العلم لأنه وحده يستطيع أن يستكشف ماهية الأشياء وعللها”.
وحسب رأي البحث في فقه النفس بما أن العقل والتفكير هو الذي يصنع العلم والمعرفة فلا بد له من إرادة توجهه ونية صادقة نحو تطبيق هدف ما، فلا يكفي وجود العقل من دون إرادة وهذا دليل على أن الإرادة هي جزء لا يتجزأ من العقل وهنا أخطأ من نادوا بإهمال الإرادة واعتبارهم أن الإنسان مجبور أو متحكم به من غرائزه وحاجاته التي تتحول إلى دوافع دون النظر بأمر ودور الإرادة وهي بزعمنا الأساس وإن تكيفت مع الواقع إلا أن الثقل الأكبر في توجيه السلوك في النهاية يذهب للإرادة والتي سماها القرآن الكريم بالعزم والعزيمة وأولو العزم كلها تسميات تحمل في معانيها أداة الحكم والتحكم من خلال الإرادة في مكون العقل الذي من الممكن أن يفعل.
وكذلك باقي الكائنات مثل النبات والحيوان تحمل مستوى أقل من الإرادة واعتماد أكثر على العقل الغرائزي فيكون تفاعلها وأثرها محدود محصورا لا يأخذ طابعا فكريا وليس له أبعاد أكثر من الاهتمام بهدف واحد هو صراع البقاء.
ومن دواعي السخرية أن (بنفليد) بدأ أبحاثه ليثبت العكس تماما فيقول “طوال حياتي العلمية سعيت جاهداً كغيري من العلماء إلى إثبات أن الدماغ يفسر العقل وهو بدأ مسلحاً بجميع افتراضات النظرة القديمة غير أن الأدلة حملته آخر الأمر على الإقرار بأن العقل البشري والإرادة البشرية حقيقتان غير ماديتان، ويعلن لاحقاً أنه أمر مثير أن يكتشف أن العالم يستطيع بدوره أن يؤمن عن حق بوجود الروح.
فلا بد للنظريات من الرجوع لمعرفة أهمية العقل والجانب الروحي، حيث إن الإنسان حينما يعتمد على فكره وقناعاته وجانبه الروحي وتظهر الإرادة القاهرة في الوقوف أمام نكبات الدهر من فقد حبيب أو عمل أو خسارة مادية أو عاطفية فادحة، فلولا وجود العقل والجانب الروحي لكان حال الناس في أشد حالة انتكاسية قد تصل إلى حد تذهب العقل عند الإنسان فكم شاهدنا حالات تحدي للإرادة من خلال حالات في السجون صمدت في التحقيق والعزل الانفرادي وفي أوضاع صعبة للغاية، وكان سرهم هو الجانب الروحي والأجواء الروحية والعقلية التي صنعوها لأنفسهم ومدى ارتباطهم بخيالهم ورسالتهم السامية وتغلبوا على غرائزهم وتقووا بإيمانهم العميق وبأملهم بالفرج وأملهم ويقينهم بكرم الله عز وجل وبجزائه لهم سواء على الصعيد الدنيوي أو الأخروي، ووقفوا وقفة أذهلت البشر، وضربوا أرقاماً قياسية في التحمل والصبر ورباطة الجأش، وكل هذه القوة لم تستمد من الحافز ولا السلوك المتعلم ولا الغريزة ولا من الطفولة إنما جاءت من الجانب الروحي العظيم ولذة الرسالة والدفاع عن قضية ولذة التضحية من أجل من يمتلك مفاتيح كل شيء.
لو كان الإنسان كيانا ماديا وتم التعامل مع الجانب النفسي فيه على أساس أنه أمر متعلم أو غريزي أو جانب مادي وتم تجنب الجانب الروحي فيه وهو الأهم في الإنسان ومربط الفرس فيه لكان من المعقول والمنطق اتخاذ مصادر الدفع أو التحريك أو طاقة الكهرباء مثلاً أو قوة ضغط البخار أو الاحتراق الداخلي كالتنفس، أي بمعنى آخر لو صح ما سبق هل يمكن التحكم بمصدر طاقته أو طاقة تشغيله؟.
- أغرس، ستانسيو، روبرت، العلم في منظوره الجديد، مرجع سابق، ص39.
- المتصل الرباعي الأبعاد الناشئ وفقا لنظرية النسبية من اندماج الزمان بالأبعاد الثلاثة وهي الطول والعرض والارتفاع.
- أغرس، وستانسيو، العلم في منظوره الجديد، مرجع سابق، ص33.
- وليدر بنفليد، علم فسيولوجيا أعصاب وجراحة الأعصاب، شرع في بحوثة الرائدة في الثلاثينيات من هذا القرن، اعتمدت اكتشافاته متأخرا عام 1975 حين نشر كتابه المسمى لغز العقل. (أغرس، وستانسيو، العلم في منظوره الجديد، مرجع سابق، ص34).
- أغرس، وستانسيو، العلم في منظوره الجديد، مرجع سابق، ص41.