إن الصحة النفسية ليست مرادفا للاطمئنان أو سلامة العقل وهي ليست غياب الصراعات الانفعالية والوجدانية، ولا تعني أيضا التكيف والتوافق بمعنى المسايرة والتمسك بالتقاليد، ولكن الخلاف الحاد ينشب إذا انتقل الحديث والنقاش من تعريف الصحة النفسية والشخصية السوية إلى ديناميتها والمحددات الفاعلة. فحب الحياة بطريقة شرهة وكأنها هي نهاية المطاف وليس هناك آخرة ولا حساب ولا عقاب ويهيئ لطالب الدنيا كأنها الفرصة الوحيدة والملاذ الوحيد للنجاح والنجاة فتراه يلهث ويلهث نحو بريق الدنيا وزخرفها الزائل المنحط، يستوحش تارة ويستكلب تارة أخرى ويلبس ثوب المبررات أو التبريرات ويحرص على أن يظهر بقضية ووجهة نظر وجيهة مقنعة منطقية ولكن هيهات، فتكشفه رعونته وسيلان لعاب شهوته وعدم التحلي بالقناعة والتركيز على اللذة وتكرارها والحصول عليها، وليس هذا وحسب وإنما سعي النفس الدؤوب نحو التجديد والمزيد من اللذة والإثارة، فالعتبة المسؤولة عن الإثارة واللذة والشهوة ترتفع وتكبر بعد كل تجربة وخبرة تَمر عليها وتطلب المزيد وتقول كما تقول جهنم هل من مزيد؟ فهي لا تشبع ولا تفقه ولا تعقل، وكيف لا والهوى هو من يقودها نحو جنون الشهوات والملذات التي لم يُهيَّأ للإنسان أصلا أن يعيشها أو يستوعبها ويتعامل معها.
وكما أن العلم والمعرفة فيه علاج للنفس، من الوصول إلى حيث أهوائها وقائد يسوسها كما يسوس الفارس فرسه حتى يُطوعها، أو قد يكون خادما للنفس في إيصالها إلى ما تهوى حينما يترك رسن فرسه أو زمام الأمور، فبدلا من الحذق في مواجهتها أي النفس وسياستها يكون خادما لها، وهذا النوع من البشر يكون العلم له ضارا والجهل خيرا من علمه لأنه لو كان جاهلا لم يوصل النفس إلى شهواتها بهذا الإتقان والحذق ومن هنا كان العلم لبعض النفوس ضارا والسبب من النفس لا من ذات العلم.
وعلماء النفس انقسموا على أنفسهم في موضوع إخضاع العقل للغريزة في طريقة التحليل النفسي وإلغائه في المذهب السلوكي، فهنا كما نلاحظ تناقض بين التحليلية والمدرسة السلوكية وكلا المدرستين بتبنيهم هذين الاتجاهين قد أفضيا إلى تجريد الإنسان من إنسانيته فالأولى تحوله لحيوان ناطق والأخرى تحوله لماكنة ميكانيكية، فالمدرسة السلوكية تنظر إلى السلوك السوي والسلوك المضطرب على أنهما مجرد استجابات تخضع لعلاقات مشروطة تربطها بمثيرات تقع قبلها كما هو الحال عند (بافلوف) في الإشراط الكلاسيكي أو مدعمات أو أحداث تمثل عقاباً تقع بعدها مثل (سكينر) في الإشراط الإجرائي أو نتيجة ملاحظة سلوك يقوم به الآخرون مثل باندورا في التعليم الاجتماعي.
فظهرت في الخمسينات من هذا القرن قوة ثالثة أو اتجاه ثالث عرف بعلم النفس الإنساني ومن أبرز مؤسسي هذا الاتجاه (فرانكل وماسلو وروجر) الذين يعترفون بأولوية العقل، فإنها ترى أن السلوك المضطرب ينشأ نتيجة عدم الاتساق بين الخبرة التي يمر بها الفرد وبين ذاته التي بناها من خبرات اعتبرها إيجابية لأنها أكسبته رضاه عن ذاته وأيضا رضا الآخرين ذوي الأهمية في حياته مثل مدرسة كارل روجر.
وبعدم حصره في الخواص الكيميائية والفيزيائية للمادة، وبكون الإنسان قوة واعية الأصل فيها التحكم بزمام المبادرة والإدارة وحرية التفكير والانقياد ومقاومة الغرائز، وقاموا برفض التوجهات التي تقول إن الإنسان وسلوكه البشري أساسه كله هو الدوافع والغرائز والضروريات البيولوجية وردود الفعل الآلية، ويؤمنون بالجانب الأخلاقي والجانب الروحي والفكري والجمالي عند الإنسان.
ونظريات العلاج الجشطلتي ترى أن المرض والاضطراب النفسي ينشأ نتيجة انشغال الفرد بأشياء لم تتم في الماضي أو أشياء لم تقع بعد، والاتجاه المعرفي العقلاني الذي نؤيده ونرجحه والذي يقول أنه ليست المثيرات هي التي تؤدي إلى سلوك ومن بينه سلوك المرض وإنما الأفكار التي يتبناها الفرد هي التي تؤثر على النتائج مثل (ألبرت أليس) في العلاج العقلاني والانفعالي، و(آرون بيك) في العلاج المعرفي. وترى نظرية أخرى أن اندماج الفرد مع أشخاص لهم هوية نجاح يساعد على النمو السوي بينما اندماجه مع أشخاص لهم هوية الفشل وافتقاده إلى الحب وإلى الشعور بالقيمة الذاتية يؤدي به إلى هوية الفشل المعبرة عن الاضطراب النفسي مثل ويليام (جلاسر) في العلاج بالواقع، وتتبنى نظرية العلاج بالمعنى التي طورها (فرانكل) وجهة نظر أن الإنسان يمرض نفسياً ويضطرب سلوكه لأنه يفتقد إلى معنى لحياته أو ما أطلق عليه الفراغ الوجودي ومازالت نظرية أخرى ترى أن الاضطراب في السلوك إنما يتمثل في اضراب التنشئة ووجود أنماط من التحولات غير الملائمة في علاقات الفرد بغيره نتيجة عبوره مرحلة الطفولة بسرعة أو سرعة الدخول إلى الرشد النفسي أو العكس مثل (ايرك بيرن) وتركز نظريات العلاج الأسري على أن الاضطراب النفسي يرجع إلى خلل في بناء الأسرة وعلاقة الأجيال المتتابعة بعضها ببعض وعدم كفاءة الأسرة كمنظومة دينامية تربطها علاقات مثل (بووين) في نظرية المنظومة الأسرية.
فهذه كلها تفسيرات بشرية في كل فكرة من أفكار العلاج أو سبب المرض يتبناه اتجاه معين أو مدرسة نفسية تحمل وجهة نظر مختلفة تعلل فيها السبب والعلة، وهي جميعها فلسفة منطقية معقولة ولكنها قاصرة محدودة تحمل طابع البشر غير الشمولي ومن منطلقات شخصية أو منطلقات بيئية لا يمكن تعميمها فتبقى في إطار النظرية والتطبيق بمعنى عدم قدرتها على أن تفسر السلوك في كل الحالات بل بعض الحالات، ونحن نعلم تفرد الأطباع والنفوس وإن تشابهت مجموعات لا يمكن أن تنطبق على كل المجموعات، وهي اعتبرها أساليب وطرق ولم ترق للنظرية لأنها لا تنطبق على الجميع.