من كتاب سكينة الإيمان ط2 تأليف الدكتور كمال الشريف
“1. لَعَلَّكُم تتَّقُون“
قال تعالى : ﴿يَا أيَهُّا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلكِمْ لَعَلَّكُمْ تتَّقُونَ ﴾ ]البقرة: 183[.. إذاً التقوى هي الثمرة المرجوة من الصيـام. ولكن كيف يؤدي الصيام إلى التقوى؟ إن التقوى اتقاء لغضب الله، والسبيل إلى اتقاء غضبه هي اجتناب ما حرم، والامتناع عن الوقوع فيما نهى عنه،
والتقوى تتطلب قدراً كبيراً من التحكمُّ بالنفس ومقاومة هواها: والإنسان لا يولد متحكماً بنفسه ومسيطراً على أهوائه
وعلماء النفس المعاصرون يرون أن التحكم بالنفسSelf Control يتركب من مكوّنتين الأولى هي مقاومة الإغراء
Resistance to Temptation، والثانية هي تأجيل الإشباع
Delay of Gratification، حيث تعني مقاومة الإغراء أن يمتنع الإنسان عن فعل ما حُرِّم عليه رغم قدرته على ذلك وتوفر الفرصة أمامه للوقوع فيه، ويعني تأجيل الإشباع أن يحرم الإنسان نفسه من رغبة ومتعة عاجلة كي يحصل على متعة آجلة أعظم منها.. وبالتمرس على مقاومة الإغراء وتأجيل الإشباع تنمو قدرة الإنسان على التحكم بنفسه ومقاومة هواه.
والذي يتأمل صيامنا في رمضان يجد فيه دورة سنوية مكثفة على مقاومة الإغراء وتأجيل الإشباع وبالتالي على التحكم بـالنفس الذي يشكل أساساً هاماً للتقوى .
8. “وبالأسْحارِ هُم يَسْتَغْفِرُون “
في بداية الدعوة الإسلامية كان قيام الليل فريضة على النبي ﷺ وأصحابه، وبعد أ ن حقق القيا م والقرآن الذ ي يتلى فيه الغرض الذ ي فر ض من أجله، وقام بغسل قلو ب الكوكبة الأولى من الصحابة من أدرا ن الجاهلية لتكون النـواة التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي فيما بعد، بعد هذ ا خفف الله عن المؤمنين وصار قيام الليل سنة، ورمضا ن موسم من مواسم هذه السنة الرائعة.. قا ل ﷺ: “مَن قامَ رمضانَ إيماناً واحتِساباً؛ غُفِرَ له ما تقَدَّمَ مِن ذَنبِه ” )متفق عليه(.
هل يكون قيام الليل على حساب صحة الإنسان العقليـة والجسدية ؟
والجواب المتوقع هو: لا بالطبع، إذ لم يشرع الله لنا إلاّ الطيبات وما فيه صلاحنا ولم يحرم علينا إلاّ الخبائث وما فيها لضرر لنا.. ولكن أين تكمن المنفعة العاجلة في قيام الليل ؟
لقد كشفت دراسات الأطباء النفسيين في السنوات الأخيرة أن حرمان المريض المصاب بالاكتئاب النفسي من النوم ليلة كاملة وعدم السماح له أن ينام في النهار الذي يليها حتى يأتي الليل من جديد، هذا الحرمان من النوم له فعل عجيب في تخفيف الاكتئاب النفسي عند الإنسان وفي تحسين مزاجه حتى لو كان من الذين لم تنفع فيهم الأدوية المضادة للاكتئاب.
ثم تلا ذلك دراسات أخرى بينت أنه لا داعي لحرمان المريض من النوم ليلة كاملة كي يتحسن مزاجه، إنما يكفي حرمانه من النوم النصف الثاني من الليل ليحصـل على القدر نفسه من التحسن، والنصف الثاني من الليل هو الذي يكون فيه السحر الذي أثنى الله على من ينفقه في ا لاستغفار والقيام..
فسبحان الذي جعل لنا في قيام الليل والتهجد في الأسحار جائزة فورية قبل الثواب الأخروي، وهي اعتدال المزاج وتحسنه لدى القائمين والمتهجدين، وعافية نفسية تجعلهم أكثر سعادة في الدنيـا قبل الآخـرة .
9. الصَّومُ التِزام
والقدرة على الالتزام والمحافظة على الالتزام بالصوم من علامات نضج الشخصية لدى الإنسان، كما إن الالتزام المتمثل بنية الصيام يجعل الامتناع عن الطعام والشراب والشهوة ابتغاء مرضاة الله أهون على النفس مما لو كان البقاء دون أكل وشرب ناتجاً عن مانع من خارج النفس، كأن يمنعك شخص من الوصول إلى الطعام والشراب مثلاً، إذ في هذه الحالة يكون الجوع والعطش أشد، وهذا ما بينته الاختبارات النفسية حيث وجدت أن “الالتزام يغير الدافع،”وهي عبارة من علم النفس تعبر عن نتيجة لدراسات عديدة،في إحداها حضر الأشخاص الذين ستتم عليهم التجربة دون أن يأكلوا أو يشربوا لعدة ساعات قبل مجيئهم وذلك بناء على ما طلبه الباحثون منهم، ثم بعد وصولهم طلب الباحثون من بعضهم أن يبقى دون طعام أو شراب فترة أخرى –دون أي مقابل مالي أو غير مال ي – وقبل هؤلاء أن يلتزموا بذلك،فكان صومهم عن الطعام والشراب لساعات أخرى التزاماً منهم وقراراً اتخذوه بحرية وإن كان استجابة لطلب من الباحثين، لكن كان لهم الحرية في أن يرفضوا ولا يلزموا أنفسهم بذلك.. أما بـاقي الأشخاص المجرب عليهم فلم يطلب منهم الالتزام بالبقاء دون طعام وشراب إنما تركهم الباحثون دون طعام وشراب وجعلوا الأمر يبدو لهم وكأنه غير مقصود. وفي نهاية التجربة أجريت على الجميع اختبارات نفسية لمعرفة شدة الجوع والعطش لديهم، فوجد أن الذين التزموا بالامتناع عن الطعام والشارب التزاماً كـانوا أقل جوعاً وأقل عطشاً من الذين تمت مماطلتهم بحيث صاموا الساعات نفسها لكن دون التزام منهم بذلك، كما تمت معايرة “الحموض الدسمة الحرة” في دمائهم جميعاً، وهي مواد تزداد في الدم كلما اشتد الجوع عند الإنسان، فو جد أنها كانت أقل ازدياداً عند الذين التزموا بالصيام التزاماً.. وهكذا كان للالتزام بالصوم أثـر حتى على رد فعل أجسامهم الفيزيولوجي نتيجة بقائهم دون طعام أو شراب الساعات الطويلة.
إن الصوم صبر، والصبر في جوهره التزام ورضا بالحال التي يضعنا الله فيها، وبالصبر تهون المعاناة وتقل، لأن الرضا حتى بالمصائب يشبه الالتزام بها، كالذي منع نفسه من الطعام والشراب لأنه يريد الصيام لله تعالى، والذي ابتلاه الله بالفقر والمرض أو بفقد عزيز فصبر، فإنه امتنع عما حرمه الله منه امتناعاً عن رضاً وتسليم، وهو امتناع يشبه امتناع الصائم وإن كان الفرق بينهما في أن رفض المصاب وسخطه لا يغير من الواقع شيئاً بينما للصائم الحرية في أن يتم صومه احتساباً أو أن يقع في معصية الله فيفطر دون عذر، والامتناع الراضي يكون أقل إيلاماً للنفس مما لو تلقى المصيبة بتذمـر وسخط وغضب.
وهكذا يكون في صيامنـا كل عام في رمضان تدريباً لنا على الالتزام وزيادة لنا في النضج النفسي .