عامر منير غضبان
كثير من الظلم بين الناس يقوم به أناس يعتقدون أن لهم الحق فيما يفعلون، لأنهم تعرضوا لظلم سابق، أو لأنهم يخافون من ظلم قد يقع عليهم في المستقبل.
هذه الظاهرة ملاحظة على المستوى الفردي، عند بعض الأفراد ضحايا الظلم والاعتداء، لكنها على المستوى الجماعي، عندما تصبح جزءاً من ثقافة مجتمع، تكون ظاهرة ممتدة في تأثيرها، عميقة في جذورها، خطيرة في تداعياتها، وهي إحدى أهم الظواهر المرتبطة بالاقتتال الداخلي والفتن التي تمزق المجتمعات، لذلك لقيت في العقدين الأخيرين اهتماماً كبيرا من الباحثين في علم النفس الاجتماعي، بتأثير تزايد الحروب الأهلية وكثرة الشعوب والدول التي عانت من آثار مجازر ترتكبها تجمعات أو مجتمعات أو أعراق من أبنائها ضد تجمعات أخرى، فقد بحث تأثير هذه الظاهرة في حروب راوندا وكوسوفو، وكذلك بحثت في الصراع بين الفلسطينيين والصهاينة على أرض فلسطين، ومعظم الباحثين الذين بحثوها في الصراع الصهيوني الفلسطيني افترضوا أن هذا الصراع بين فئتين اجتماعيتين لهما الحق في العيش على هذه الأرض، وافترضوا أن صراعهما ينبغي أن ينتهي بتعايش سلمي على هذه الأرض، أي دون اعتبار لفرضية أن إحدى الفئتين محتلة لأرض الفئة الأخرى.
وبسبب هذا الإشكال سيكون علينا تفعيل اجتهاداتنا ونقدنا لنتائج الدراسات المتعلقة بهذه الظاهرة، لكن سنبقى نلاحظ تأثير فكرة المجازر التي تعرض لها اليهود – كما في مذابح النازيين – في ثقافتهم التي تبرر لهم ما يرتكبونه من مجازر ضد أعدائهم، وما يقومون به من إفساد في الأرض.
وكما يظهر لنا ذلك في مثال اليهود، يظهر في أمثلة أخرى للصراعات الطائفية والعرقية في باقي البلدان، ومنها البلدان العربية، التي يستبيح فيها أبناء بعض الطوائف دماء إخوانهم في الوطن، لغاية تصحيح خطأ تاريخي، أو الانتقام لظلم حدث منذ مئات السنين.
وسنحاول في هذا المقال التعرف إلى آثار هذه الظاهرة عندما تكون عاملاً مؤثراً في أي صراع داخل الوطن وبين أبناء المجتمع الواحد، ثم التعرف إلى بعض ما يمكن أن يستفاد منه في تصويرها وعلاجها في القرآن الكريم والهدي النبوي.
عندما تسود فكرة “نحن ضحية” بين أبناء فئة أو طائفة داخل المجتمع، فإنها تكون جزءاً أساسياً وفاعلاً داخل ثقافة هذا المجتمع، تمثل الصورة الأبرز التي يرسمها الأفراد عن مجتمعهم وانتمائهم، ويتبعها بناء قيمي تعلو فيه قيمة “الثأر”، ويرتبط بها تصور محدد عن التركيب الاجتماعي القائم، أو الذي يجب أن يقوم، ويتم من خلال عمليات التنشئة الاجتماعية تداول هذه الثقافة لتترسخ بين الأفراد وتتناقلها الأجيال.
وفي أوقات احتدام الصراع الداخلي يرتفع في كل فئة اجتماعية صوت السعاة في الفساد، وقد يصل هؤلاء للقيادة في مجتمعاتهم، فيصبح المفسد هو القائد المنقذ الذي يحمي مجتمعه، ويقوم هذا القائد بتغذية الصراع الداخلي وربطه بقيم إحقاق الحق وإقامة العدل، ويقدم خطاباً يؤكد أن الفئة المعادية تستحق السحق والذبح، ويبرر استضعافه لها بأنها استضعفت قومه في الماضي، أو بأنها ستستضعفهم وتذلهم لو رفع عنها السيف للحظة واحدة. وأوضح الأمثلة على ذلك فرعون الذي ﴿علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم﴾ [سورة القصص: 4].
عندما يحتدم الصراع الداخلي ويتحول إلى حرب، تحتاج الفئات الاجتماعية المتنازعة إلى تثبيت صورة اجتماعية محددة عن نفسها، صورة يجتمع عليها أبناؤها، وتجعلهم يقدمون لأجلها التضحيات، ولوحظ أن فكرة “نحن الضحية” موجودة عند كل الفئات المتنازعة في الحروب الداخلية، وخطاب الشكوى من الظلم والتحذير من وقوعه من قبل الفئة المعادية يكون بارزاً بقوة عند الفئتين، وتتنافس الفئتان في الشكوى، ويطلق العلماء على هذه الظاهرة اسم “التظلم التنافسي” (competitive victimhood)، وتتجدد صورة “نحن الضحية” أو “أولئك هم الظالمون” عند كل من الفئتين عند كل مشهد من مشاهد الحرب الداخلية، لذلك كانت هذه الظاهرة إحدى أهم عوامل تفاقم هذه الصراعات.
والذي يبدو أن معظم الأفراد في هذه الحالات يتلبسون هذا التصور الجمعي، ويحمل كل منهم هذا التصور ليشارك أعضاء مجموعته في دفاعهم عن أنفسهم وعن مجتمعهم كما يبدو لهم، ويشارك عضو المجموعة في الاعتداء على الآخرين بدون أن يعمل تفكيره في نقد هذا التصور أو بحث حقيقة ارتباطه بالحق والعدل، أو حتى بحث إن كان يحقق مصلحة المجموعة أو يكسبها المستقبل الآمن. والمستغرب دائماً في هذه الصراعات قيام أفراد بالمشاركة في الاعتداءات والمجازر ضد أفراد آخرين كانوا قبل فترة قصيرة مجاورين لهم في السكن، أو زملاء لهم في العمل، أو شركاء لهم في مجالات العيش الأخرى. فهي حالة ذوبان الفرد في جماعته وغياب استقلاليته بشكل كامل. ويحتاج قادة هذه الحروب لإذكاء هذا الشعور حرصاً على جمع الأنصار وتحقيق المكاسب في هذه الحروب.
:الظاهرة في الهدي القرآني والنبوي
لعل أبرز مثال على ظاهرة اعتداء الضحية نراه في أحد المشاهد من قصة بني إسرائيل، وهو مشهد قصة قارون، فإن قارون كان من بني إسرائيل، وهم الذين مروا بتجربة الاستضعاف عندما كان فرعون وآله يسومونهم سوء العذاب، وعندما تمكن قارون وقوي بماله بغى على قومه بني إسرائيل ﴿إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم﴾ [سورة القصص: 76]، فكرر قارون عملية البغي، ومارسها على قومه أنفسهم ليس على قوم آخرين.
ومن المشاهد الملفتة في هذه القصة مشهد قسم من قوم قارون، وصفوا في القرآن بأنهم ﴿الذين يريدون الحياة الدنيا﴾، عندما رأوا قارون يتبختر في زينته تمنوا أن يكونوا مثله، فقالوا: ﴿يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم﴾ [سورة القصص: 79].
إن الملاحظ في هذه المشاهد أن ضحية الظلم قد يتعلم الظلم من ظالمه، وقد يسعى لإقامة ظلم جديد، ولعل أقرب تفسير لهذه العملية هو “تعلق المغلوب بالغالب”، وهي ظاهرة تحدث عنها العالم العربي ابن خلدون في “مقدمته”، واعتبرها بعض من بحث في ظاهرة التظلم التنافسي تفسيراً معقولاً، فالمستضعفون قد يتلقون من ظالميهم طريقة العيش ومنهج الحياة، وقد يتمثلون بعضاً من قيم مجتمع الظالمين، وربما يرسخ في عقولهم أن هذه الطريقة هي سبيل التفوق، وأن المعايير التي تحملها هذه القيم هي معايير التميز، وأن السعي لتثبيتها في واقع الحياة هو منهج إصلاح المجتمع.
وهذا التصور بلا شك تصور قاصر، يعبر عن ضعف المجتمع الذي يتبناه، وطريقة تغييره يجب أن تتضمن تنمية فكرية عامة في المجتمع، وإصلاحاً لثقافته، بتوسيع النظرة للواقع، وإنشاء تصور أعمق عن إمكانات النهوضن بزيادة تعريفالمجتمع عن قدراته، وبحثه في إمكانات أبنائه.
وفي السيرة النبوية مثال بارز على إعادة بناء المجتمع عن طريق تغيير تصوره عن نفسه، وترسيخ معايير جديدة يتنافس فيها الأفراد، ذلك هو مثال بناء مجتمع أهل المدينة المنورة من قبيلتي الأوس والخزرج، فبعد أن قضى أهل يثرب عقوداً في حرب متواصلة بين هاتين القبيلتين، ربما لم يكن يفسر استمرارها إلا دوافع الثأر، هاجر النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة، فسمى أبناء هاتين القبيلتن “الأنصار”، ومع تغير هذا الاسم تغيرت كل توجهات أبناءالمجتمع وأصبحت مرتبطة بقيمة نصرة الحق، وعلينا أن نلاحظ التغيرات في انتماء الفرد ومعنى كلمة “نحن” حين يحمل اسم المجتمع معنى قيمياً بدل أن يكون اسم قبيلة.
لقدطور المختصون في علم النفس الاجتماعي الغربيون استراتيجية لمواجهة الحروب داخل المجتمعات تقوم على إعادة تصنيف أعضاء المجموعات الاجتماعية المختلفة، وربطت هذه الاستراتيجية بعمليات النمو المعرفي للإنسان الفرد، فمع تقدم الإنسان في عمره وزيادة خبراته يقوم بإعادة تقسيم البشر الذين تشملهم معرفته من خلال أسماء وتبويبات وتصنيفات جديدة، لكن هؤلاء العلماء رأوا أن هذه الآلية تحتاج لوقت طويل كيتؤتي ثمارها، وقد لا تنجح في ظروف الصراع العنيف والحروب الدموية التي تتابع أحداثها، ولهذا عرضت آليات أخرى معظمها يركز على إقامة طرق تواصل بين أبناء المجتمعات المختلفة، ويمكن لبعض هذه الطرق أن يتم حتى في ظروف الحرب.
إن تحدي الاقتتال الداخلي واعتداء الإنسان على أخيه في الوطن والمجتمع أصبح من أخطر التحديات التي تواجه البشرية، ويتطلب من مختلف العلماء والمتخصصين أن يسارعوا إلى تشخيصه وتطوير برامج علاجه، وإن تجاوز تجربة تاريخية ناجحة مثل التجربة النبوية هو تقصير يتحمل مسؤويته علماء النفس المسلمون، وكذلك كل عالم متجرد عن الهوى باحث عن المعرفة الإنسانية البناءة.