“كل حي متحرك لا محالة، وكل ميت غير متحرك لا محالة” – الإمام الدارمي
هل توقَّفنا لنتأمل بعمق؟
في عجلة هذه الحياة الطاحنة وصخبها، هل فكرت يوماً أن تنتشل نفسك منها لتنتقل إلى مساحات أكثر هدوءاً وجمالاً..؟! حيث الطبيعة الواسعة والكون الفسيح اللامحدود.. هل نظرت للمخلوقات من حولك لتتأمل تفاصيل صنعها، حركتها، صعودها ونزولها، دقة الصانع الحي فيها الذي خلق كل شئ بإبداع ولحكمة جليلة. هل تعجبت قائلاً ‘سبحان الله’ حين وجدت نقطة صفراء تتحرك على شاشة هاتفك، لا تدري ما هي، ولكنك توقن أنها كائن ‘حي’ فقط لأنها تتحرك؟
فبدأً من ذرة صغيرة لا تُرى بالعين المجردة، إلى أجرام سماوية من كواكب ونجوم، وشمسٍ مضيئة وقمرٍ منير لا حياة بدونهما، والتقلب بين الفصول.. كل في حركة دؤوبة في هذا الكون العظيم، بدقة بالغة ولأجل هدفٍ محدد، “كلٌّ في فلكٍ يسبحون” (القرآن 21:33).
ومع ذلك، ومع عجلة هذه الحياة المادية، قلما نشعر بما يدور حولنا.
لعله خطر في بالك يوماً، وأنت تراقب هذه المتحركات من حولك: هل خُلقت لأتحرك؟”
كائن مميز لا مثيل له
بلا شك..
وعلى هذا جُبلت أجسادنا، فخلقنا لنحيا بتحرك ولنعمل بجد، فنُغَير ونُصلح في الكون من حولنا. فإننا إن تراخينا قليلاً بخلاف هذه الطبيعة، تجنَّن علينا هذا الجسد وصرخ بالآلام، وظهرت فيه العلل لتوقظنا قائلة:
انتبه، فإنك خُلِقتَ لتتحرك!
إن الله عز وجل، خلق الإنسان وكرمه، وركبه على أحسن تقويم، فلكل عضو غاية وهدف، تتحد مع بعضها لأجل القيام بمهمة معينة، فلا شيء خلق عبثا، كل شيء قدّر وشكّل ليقوم الإنسان بما لا يقدر عليه غيره من المخلوقات. فتأمل مثلًا لاعب الجمباز لترى قدرته المذهلة على القفز والدوران والانحناء بتوازن وخفة عجيبتين، كل ذلك بهمة ووعي حثيثين وعمل دؤوب للوصول إلى هذه المرحلة من الأداء المتقن.
حسنٌ فريد تمتزج فيه الروح والمهارة، ليتميز الكائن البشري عن سائر المخلوقات الأخرى في هذا الكون، كالقردة مثلاً التي يرد البعض أصل الإنسان إليها. فعن أي تشابه يتحدثون؟
فهل شاهدوا يومًا عازف بيانو أو أي آلة موسيقية، وتأملوا تناغم أصابع يديه وهي ترقص على المفاتيح بطريقة استثنائية؟ مهارات دقيقة يتناسق فيها عمل العضلات الصغيرة في أصابع اليدين مع الدماغ للتحكم في تلك الحركات الرقيقة. كمال وإبداع يمتد من الفجوات والفواصل إلى الأنامل!
ليتهم نظروا إلى الكاتب والخطاط، الشاعر والمؤلف، ومدى دقة وتناغم ما خلق الله فيهم، لينتجوا ميراثًا من الآداب والفنون، انعطفت له الوجهات وانكب عليه آلاف المولعين بالذوق والجمال على مر التاريخ.
طبيعة قاهرة وتحديات متعددة
نعم، سُويَّ هذا الجسد فأي انحراف بسيط في زوايا العضلات مثلا، أو تغيير طفيف في توازن وتماسك هذه الأنسجة، قد يكون سبباً في آلام قد تتطور لتسبب عللاً جسمية مزمنة ويصاحبها اضطرابات نفسية مثل القلق وتقلبات المزاج المتكررة والاكتئاب، فكل شيء مرتبط بالآخر بشكل وثيق وعجيب في هذا الكائن البشري.
إن طبيعة الحياة اليوم الجاذبة للركون والقعود وقلة النشاط والحركة، باتت تحدياً كبيراً في وجه كل إنسان، ليبقى في يقظة ووعي دائم لما قد يطرأ على هذا الجسد من تغيير، منتبهاً، فاهماً لهمساته ومناجاته، حينما يدعوه.. ليتحرك!
فالجلوس لفترات طويلة على هيئة واحدة أو وضعية خاطئة للعمل أو للدراسة، أو حتى لتصفح المواقع الإلكترونية، كل ذلك يسبب ثقلا كبيراً على مناطق كثيرة مثل أسفل الظهر والاكتاف والرقبة. ومع تطور أنماط الوظائف وطبيعة الحياة المعاصرة، خاصة بعد جائحة الكورونا، باتت معظم الأعمال تنجز من المنزل، حتى أن الكثيرون اعتادوا التسوق إلكترونياً عبر المواقع وهم يجلسون على أريكتهم في غرفهم..
ليزداد معدل ركون الإنسان وقعوده عن الحركة بشكل مخيف وسريع! ذاك المخلوق الذي خلقه الله ليتحرك ويتفاعل مع البيئة والمخلوقات من حوله، فيسير في الأرض وينظر ويتأمل، يعلّم ويتعلم، يسعى ويعمل.
لكننا اليوم لا نرى إلا أشباه روبوتات، متجمدة الحركة والمشاعر، متأثرة بكثرة المحفزات من حولها، في محاولة لمواكبة متغيرات العصر ومتطلباته المعادية لمفهوم الحركة الصحيح والعميق. وليصبح ما خُلق الإنسان لأجله أزمة حقيقية لا بدّ أن نقف لنعيد ترتيب أولوياتنا، ونبحث لها عن حل..
وماذا عنك أنت؟
قد يسأل سائل: ماذا عن العمل والدراسة، الترفيه ومواكبة متغيرات عصرنا، هل نقاطع كل ذلك؟
لكل منا متطلباته ورغباته المهمة له، لكن خَلْق حالة من “التوازن” هو الأهم، ولا يكون ذلك إلا باتصالك مع داخلك أولاً، ومراقبة انفعالاتك ومشاعرك وجسدك، والوعي التام بما يتعلق بهم من تغيرات تحتاج لانتباه وتحرك للإصلاح، وإنفاق للوقت بالقراءة والتعلم للبحث عن أسباب المشكلة، والسعي بالمال إن اضطر الأمر من خلال استشارة المتخصصين وأصحاب العلم في ذلك، مجاهداً نفسك للمحافظة على حالة من السواء والاتزان النفسي والجسدي لتحقيق الغاية التي خلقنا الله لأجلها. ولا يكون لك ذلك إلا بالاستعانة بالله الحي الخالق المصور، الذي خلقك ويعلم ما يصلحك.
وإن كان الحب هو “أصل كل حركة في العالم”، كما قال ابن تيمية، فليكن حبك لهذا الجسد هو الدافع للتحرك. وتذكّر: إنما خُلِقت… لتتحرك.
للمزيد من النصائح لتعزيز التواصل بين العقل والجسم، اضغط لتصفح الإنفوجرافيك
المراجع:
القرآن الكريم، سورة الأنبياء، آية 33.
https://www.healthline.com/health/chronic-pain/chronic-pain-and-depression
https://www.healthline.com/health/mind-body/body-awareness#benefits