وحسب بعض اتجاهات علم النفس في قوته الدافعة كآلة ميكانيكية تتخذ شكل غرائز وحاجات وانفعالات هي مصدر السلوك والأعمال التي يقوم بها الإنسان، وأما العقل لأنه شيء غير مرئي وله علاقة بأمر الروح وأيضا لا يمكن قياسه أو مشاهدته فهو بالنسبة لهم لا يملك زمام الأمر لأنه نتاج ثانوي للمادة، إذن ما هي أقوى غريزة أو حاجة أو عاطفة وتكون هي مولد السلوك لدى الإنسان والدافع الحقيقي؟
هل هو الحب أو حب الحياة؟ أم الخوف؟ أم النقص؟ أو الغريزة الجنسية؟ أم التعلم الاجتماعي؟ أو المكتسب أم الفهم المعرفي؟ أم تحقيق الذات؟ كما ادعت النظريات.
إذن هي كلها أمور جزئية في الدوافع والمحرك وهي قوى مجتمعة ليست محصورة وما أشكل على العلماء هو ماديتهم وإنكار الحق الذي هو يمثل الجانب الروحي في النفس البشرية وهو الجانب الديني في خلق الإنسان وهم يريدون الهروب من هذا الأمر بادعائهم أنه كل ما لا يمكن قياسه ومشاهدته للحواس يفتقد لشروط البحث العلمي. وهذا ما حاولنا لفت النظر إليه في مبحث سابق وهو حقيقة النفس والروح واتحادهما لتكونا كيانا يسمى النفس، وهذه النفس موجودة ومكانها في الصدر الذي يتمركز فيه القلب ويحكم النفس العقل والتفكير من خلال تصارع الفجور والتقوى والتحكم بينهما من خلال العزم.
و(لورد هوبز) اعتنق المذهب التجريبي المادي المنهجي وعمل على مقارنة صريحة للإنسان بالآلة، كما يشبه أجزاء المجتمع البشري بأجزاء الآلة، وهو في تفسيره للسلوك البشري يولي الدور الأساسي للعواطف ويعزو تفاوت الذكاء بين الناس إلى ما بينهم من فوارق في العواطف ويقول إن هذا الاختلاف في الفطن يرجع الى اختلاف في العواطف ويعزو تفاوت الذكاء بين الناس الى الاختلاف العاطفي وبناءً على ذلك فالإنسان الذي يخلو من عواطف قوية يفتقر إلى الحافز أو الدافع فقد يكون هذا الإنسان رجلا فاضلاً بحيث لا يسيء إلى غيره ولكنه لا يستطيع أبداً أن يكون ذا خيال واسع أو رأي حصيف فكما أن انعدام الرغبة يعني الموت كذلك يعني وهن العواطف بلادة الحس، والصراع على الحياة يبعث العداوة والحرب، ولا يمكن للإنسان أن يعيش في حضارة ومجتمع بدون الخضوع لقيود السلطة الحاكمة وبناء دولة تضمن الحرية وتحارب نزعة السيطرة واستعباد البشر لبعضهم فطرياً، فالدولة يجب أن تكون ذات سطوة لتريح الإنسان من طبعه، وبعد (هوبز) بثلاثمئة عام يبدأ فرويد دراسته للإنسان مفترضاً أن لا وجود للمادة وهو يتبنى نموذج الإنسان الميكانيكي ويعتبر النهج العلمي الوحيد لدراسة النفس البشرية هو المادية ويصف نفسه بأنه عالم نفسي ويصر دائماً على ضآلة الدور الذي يقوم به العقل في شؤون الإنسان حين تقارنه بالحياة الغريزية.
وكل ما سبق هو هروب من الجانب الروحي الذي يستعصي عليهم فهمه أو تفسيره أو أن إنكاره له فوائد لهم، ويريحهم من باب الالتزام أو الاعتراف بوجود خالق ودين يجب أن يكون مرجعية ثقافية لشتى مجالات الحياة، وهذا بطبيعة الحال يلغي دورهم على أساس أنهم مفكرون ومجددون في الفكر الغربي الحديث لأن مهمتهم التجديد والحقيقة أن هذه الدعوة أو الحركة الثقافية مغطاة بغطاء التخلص من الدين والعلمنة وهذا لمصلحة فئة من البشر متحكمة باقتصاد العالم وبمواقع سياسة حساسة، ووجدوا بدائل عملية وعلمية للدين والعادات والتقاليد وأسسوا أركانا جديدة للتفكير ومنطلقات وقيم جديدة وكان هذا هو دورهم في بداية الثورة الصناعية وهو التغيير الاجتماعي وبناء النظرية البنائية ونظرية الأنساق والدور الاجتماعي، وتغيير التفكير أو الطلب بتغير وتجديد الفكر وتهميش الدين والإنسانية بما يتناسب مع تقسيم العمل ورأس المال والنظام العالمي الجديد واستخدام الآلة في الصناعة وتدشين المرأة في الحياة العملية وتغير البناء العائلي بالأسرة من خلال خروج المرأة إلى سوق العمل حيث أن هذا شكل أكبر ضربة لنظام الأسرة وخلق خللا نفسيا وأدى إلى نشر البطالة بين الرجال.
وحسب فرويد بما أن الإنسان يحمل في فطرته وطبيعته غرائز ضد المجتمع مثل غشيان المحارم وأكل لحوم البشر وشهوة الجنس مع كل شيء وشهوة القتل أو البحث عن اللذة في كل شيء، ومن دون ممارسة اللّذه فالإنسان لا يمكنه أن يكون سعيداً في المجتمع مع ميوله الفطرية إلا بتحلله من المعايير والتقاليد التي لا يصلح التخلي عنها في معظم الاعتبارات لذلك كل فرد هو عدو محتمل للحضارة وإن كانت الحضارة محط اهتمام الجنس البشري قاطبة، وهنا يلتقي فرويد مع (هوبز) لوجود سلطة ذات سطوة لتحمي المجتمع من نفسه أو نفوس أفراده ولكن هذا من ناحية نفسية يزيد من حدة إحساس الإنسان بالشقاء، كما عبر سابقاً وها هو فرويد يعقد الأمور بدلاً من أن يحلها وهو يعتبر أن هذه حقائق علمية وما أراها إلا اصطدام مع أساس سبب الخلق وخلافة الأرض والابتلاء للإنسان في حياته بالأرض وأنه يعيش في امتحان دنيوي وابتلاء لحياة أخروية عظيمة فيها كل ما يصح ولا يمكن أن يكون فيها باطل أو شقاء، وهنا نرجع لموضوع الدين والتدين ومسائل الاعتقاد ونبين أن رائد علماء النفس وكبيرهم وعبقريهم ومن جاءت نظرياتهم رداً عليه، وكان حقدهم على نظريته لفشلهم أن يكونوا مثله أو بقدرته الفكرية والفلسفية وترابطه المنطقي المتسلسل، ها هو البطل فرويد يقف عاجزا عن تحقيق السعادة لبني البشر لأن غرائز البشر تطلب وتريد ولكنه المجتمع يخاف ويرفض ولا يقبل وهنا تزيد تعاسة الإنسان بحسب نظرته ونظرة هوبز من قبله فالبحث يزعم أن القسم الذي تكلم عنه العلماء في أن البشر لديهم ميول ونوازع للحصول على اللذة في كل ما يعطي لذة وبالتالي سعادة، وهو أمر صحيح وأن الإنسان لديه من الطمع والجشع و اللاإنسانية والتوحش لحماية ممتلكاته جانب كبير، ولكني أرى هنا أن العالمين (هوبز وفرويد) يجيبان لوحدهما عن هذه المسألة المهمة ولكن يخطئان التوجه فليس هي الدولة الدكتاتورية أو الحاكم ذو السطوة هو القادر على لجم الإنسان الغرائزي ولكنه القلب، نعم القلب السليم الأجرد المتصالح والمسلح بثقافة التوحيد التي تعطي كل شيء حقة وميزانه لأنه ببساطة صنع من خلق البشر فنرجع هنا أيضا لنفس النقطة والقضية وهي مشكلة الإيمان والكفر، ولو كنا نعلم أن كل صعوبة وصبر وارتقاء للآدمي عن شهوة كبتها أو صام عن طعام أو عن مال حرام أو ضحى فيها وتجلى مفهوم الإيثار سنصل للذة المنشودة والتي تتحول لسعادة جمّة وراحة نفسية تسمى عندنا الطمأنينة وهو شعور راقٍ يغلب اللذة الجنسية عند من يعبدونها ويقهرها، وكيف لا وبالصيام نقهر شهوة الجنس أم الشهوات، وبالجهاد نترك المال والبنين والنساء ومساكن نرضاها، ونلبي الله أكبر ونؤمن بالثواب العظيم والعطاء الجزيل لقاء تحكيم عقلنا على شهواتنا وغرائزنا في سبيل قضية فكرية معنوية اعتقادية لا يمكن أن تُفهم من غير الرسل والدين والإيمان بالله الواحد الأحد الصمد الذي لم يكن له كفواً أحد.
-والنظريات الحديثة جاءت بجهود مبعثرة غير واضحة ونظريات مضمونها مكرر، وأخذوا مهارات من التحليلية التي كفروا بها مثل الاختبارات الإسقاطية وأساليب التنفيس الانفعالي والمحاكاة وهي كلها تعتمد على العقل الباطن ومناطق اللاشعور، يعني كأنهم رفضوا التعامل مع التحليلية، وأنكروا اللاشعور والعقل الباطن وتعاملوا معه بطرق غير مباشرة تحت بند النظرية الانتقائية أو تكنيك وفنيات الإرشاد النفسي وميكانزميات العلاج النفسي، وأسسوا برامج إرشادية وعلاجية كأنها طريقة معينة للتعامل مع الأطفال والمجموعات مع الإهمال للمصدر وللتأويل الحقيقي وراء هذا البناء النظري، وهذا خطأ فادح في الصيغة البنائية والفكرية من حيث البناء والتأصيل للنظرية، بمعنى إنكار المبدأ الأساسي للنظرية التحليلية واعتبارها نظرية قديمة وغير فعاله ثم استخدام فنياتها وطرائقها بتغيير المسميات والشكل الخارجي مع بقاء المضمون والجوهر هو تحليلي.
إن تحديد سمات الشخصية السوية والتعرف على مصدرها وهي النفس السوية من خلال المنهج الإسلامي والذي يتأثر بخصائص التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان ومن أهم هذه الخصائص أنه رباني المصدر، وأنه شامل النظرة وأنه إيجابي المعاملة.
ومفهوم السواء في المنهج الإسلامي مرتبط بالكيفية التي ينظر بها إلى الإنسان من حيث طبعه ومنهجه وغاياته، ومن ثم فإن معايير السواء والانحراف يختلف قليلا أو كثيرا عن المعايير المستعملة في المناهج والنظريات البشرية الأخرى.
ومن أهم هذه المعايير المعتبرة لمعرفة السواء والانحراف في المنهج الإسلامي هو مدى انسجام السلوك مع الطبع والفطرة فالإنسان مفطور مطبوع على أشياء كثيرة خلق بها وكلما وافق الإنسان فطرته وطبعه وطريقة خلقه كان مستقرا وآمنا، وكلما صادمها أو خرج عليها صار مضطربا مترددا، والخروج عن الأشياء المطبوع عليها الإنسان هو تحول عن أصل له آفاته فقد يكون ممرضا معيقا أو مميتا أو يخرج الإنسان من نسقه ويضعف روحه المتمثلة بحيويته وطاقته وخشوع قلبه وسلامة عقله التي لا تكون إلا بصحة نفسه من كل عارض.
فالروح ليست النفس وإنما إذا اتحدت مع الجسد تصبح كياناً جديداً تدعى النفس لها ميزة العقل، وثمرة العقل التفكير من خلال الأجزاء الثلاثة في النفس وهي (الفجور، والتقوى، والعزم) وإن مركز النفس ومكانها القلب في الإنسان ولهذا كان الخطاب القرآني المعني بالنفس يكون دائما لجهة القلب ومكان النفس فيه.
- توماس هوبز (1588 – 1679) هو فيلسوف إنجليزي، كتابه الشهير، في عام 1651، لڤياثان وكتاب الدولة، وضع الأساس لمعظم الفلسفة السياسية الغربية من وجهة نظر نظرية العقد الاجتماعي. ويـُذكر هوبز اليوم لعمله في الفلسفة السياسية، بالرغم من إسهاماته في مجالات شتى، منها التاريخ، الهندسة، فيزياء الغازات، ثيولوجيا، الأخلاق، الفلسفة العامة، والعلوم السياسية. بالرغم من ذلك كله فنظرية هوبز عن أن الطبيعة البشرية هي مهتمة ذاتياً بالتعاون، قد ظلت صامدة في حقل علم الإنسان الفلسفي (https://libris.kb.se/katalogisering/75kmnh8r2fh49ct — تاريخ الاطلاع: 24 أغسطس 2019 – تاريخ النشر: 25 سبتمبر 2012
- أغرس، وستانسيو، العلم في منظوره الجديد، مرجع سابق، ص74-75.
- نوع من أنواع الاختبارات الشخصية تكون وحداته غامضة وناقصة التكوين بحيث يرى فيها كل فرد ما يعنّ له وما يرد على باله عند عرضها عليه. وليست هناك استجابات صواب أو خطأ لهذه الاختبارات، وإنما تصحح على أساس الدلالات النفسية لاستجابات المفحوص وما تكشف عنه من خصائص شخصيته وبنائه النفسي وأسلوب تفكيره وسلوكه وعلاقاته ودوافعه ومخاوفه وآلامه ورغباته وميوله. (معجم التحليل النفسي، 18) .